728 x 90



img

هذه الأيام بداية سنة هجرية جديدة، وينبغي للإنسان العاقل ألَّا تمرَّ عليه السنوات وهو في غفلةٍ عن ذاته ونفسه، ينبغي أن يقف من حين لآخر ، أو لا أقلَّ عند كلِّ مفصلٍ زمني؛ ليتأمل فيه، يتأمل في ذاته، في مجمل أفكاره، في مجمل سلوكياته، وفي أعماله ومشاعره، فيما قدَّم، وفيما ينبغي له أن يُقدِّم.
إنَّ الإنسان غير العاقل هو الذي تحمله السنوات كيفما تشاء، وتذهب به في أيِّ اتجاه شاءت هي، لا ما شاء هو، فلا يدري ماذا سيفعل اليوم، فضلا عمَّا سيفعله غدا، أو بعد غد.. لا يتأمَّل في شيءٍ من أفكاره ومشاعره، ولا يتأمَّل في شيءٍ مما كان قد فعل، ومما ينبغي له أن يفعل، ولهذا لا تجد لأفكاره من تقدُّم، ولا لنفسه من تكامل، بل يظلُّ يدور في حلقة مفرغة ، لا يكاد يخطو خطوةً إلى الأمام إلا وقد خطا بعدها خطوةً إلى الخلف، ذلك لأنه لا يحاسب نفسه .
العمر ليس ألعوبة بين يديك…بل هو فرصة ، لأن تتقرب فيه إلى الله عز وجل وتتزود لآخرتك، قال الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ابنَ آدم: أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود منى فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
ومن أجمل ما تقوم به الأمة أن تقف بين الحين والآخر تحاسب نفسها وتراجع حساباتها وخطتها ومسيرتها ومواقفها ، والمحاسبة للنفس تدل على قوة الأمة وعزيمتها وإرادتها على تجنب الأخطاء وعدم الوقوع فيها ، ومحاولة السير في الطريق الصحيح الذي يضمن لها النجاح والتقدم والازدهار والفلاح في الدنيا والآخرة ، إنها وقفة نظر وتدبر وتذكير وعبرة ، إنها وقفة لا تعطل المسيرة بل تساعدها على التقويم والمراجعة والحساب .
والمحاسبة ينبغي أن تكون فيها الصراحة تامَّة، أنت مع ذاتك، مع نفسك، ليس عليك بأس أن تُعدِّد إخفاقاتك، وأن تُعدِّد أخطاءك ومعاصيك، هذه أيضا مرحلة أخرى من مراحل المحاسبة المرحلية، أو السنوية، حيث تكون محاسبة عن مجمل الأفكار، ومجمل المشاعر، ومجمل السلوك، ومجمل الإنجازات، كلُّ ذلك ينبغي أن تتم المراجعة له؛ حتى أتكامل لابدّ أن أرجع إلى جميع هذه الأمور.
وكان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين كانوا يحرصون على أوقاتهم حرص غيرهم على الدنيا والمال ، فهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى يصف الصحابة مخاطبا التابعين في عصره فيقول : ” أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم ” ، وينصح ابن الجوزي رحمه الله تعالى فيقول : ” ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل ” .
فلا بد لكل واحد منا أن يقف مع نفسه وقفة محاسب ، فهي نهج عظيم رسمه الله لعباده المؤمنين ، حيث تجري فيها المراجعة للماضي والنظر في الحاضر والإعداد للمستقبل ، واسمع إلى آيات الله وهي تهز القلوب ، قال تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ” الحشر 18- 19 .
وسيمضي هذا العام الهجري بعد أيام ، ولن يعود إلى يوم القيامة وهو شهيد لك أو عليك ، كما ذكر الحسن البصري رحمه الله تعالى : ” كل يوم جديد يشق فجره ينادي مناد ، أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فإغتنمني فإني لا أعود أبدا ” ، ويقول : ” ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك ” .
وتظل جملة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدوي في الزمان كله تعظ وتذكر : ” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا ، وتجهزوا للعرض الأكبر ، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية ” .
وكتب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بعض عماله في الأمصار: “حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ” .
وقال ميمون بن مهران: “لا يكون العبد تقيًّا، حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك ” .”.
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: “المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .
حاسب نفسك، حاسب أعمالك، وانظر مقدار نفسك ومقدار عملك، أنت تحتاج إلى أيِّ كمية لكي تنجح في حياتك وتتجاوز كل السلبيات التي وقعت فيها في العام الماضي ، وتعززه بالإيجابيات من أجل العيش في سعادة وهناء .

الدكتور / العربي عطاء الله قويدري
استشاري في الإرشاد النفسي والأسري
جمعية أصدقاء الصحة النفسية ” وياك “